"ترميم الاستبداد" في النظام الإيراني بالانتقال من "قاضي القضاة" إلى "طبيب الأمة"

محسن مهيمني
محسن مهيمني

صحفي في "إيران إنترناشيونال"

في تغيّر المشهد السياسي الإيراني بعد وفاة إبراهيم رئيسي وتولّي مسعود بزشكيان منصب الرئاسة، يمكن ملاحظة تنفيذ المشروع الثاني من مشاريع الهندسة السياسية للنظام الإيراني لإعادة ترميم ذاته؛ بهدفين: ترميم أسس الشرعية، وإعادة بناء منظومة السلطة.

سقوط رئيسي، بغض النظر عن أسباب وتفاصيل حادثة تحطم مروحيته، شكّل فرصة للنواة الصلبة للسلطة لكي تطلق، على خلفية موجات الاحتجاج الشعبي الكبيرة خصوصًا في السنوات الأخيرة، عرضًا لتحوّل ظاهري بهدف تجميل صورتها السياسية داخليًا؛ عرض مستلهم من تجربة سابقة للنظام في ما سُمّي بـ"الاستبداد المطوَّر" عام 1997.

تحديث الاستبداد في نهاية القرن العشرين

في العقود الأخيرة من القرن العشرين، نفذت بعض الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل الجزائر ومصر وسوريا وليبيا، نموذجًا مشابهًا من "الديمقراطية من الأعلى".

هذا النموذج، الذي جاء غالبًا استجابةً للضغوط الغربية في مجال حقوق الإنسان وللمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، تم تطبيقه من خلال الانتخابات وتدوير هندسي للسلطة بين أجنحة النظام.

التحولات الاجتماعية والسياسية بعد تطبيق هذا النموذج تمثلت في إصلاحات حكومية محدودة، كظهور مؤسسات مجتمع مدني خاضعة لرقابة الدولة، وحرية إعلامية محدودة، وخصخصة الاقتصاد لصالح النخب الموالية للأنظمة الاستبدادية.

اتبعت إيران في عهد محمد خاتمي نهجًا مشابهًا، عبر تطبيق إصلاحات سياسية هندسية تهدف إلى بقاء النظام.

لكن الدراسات السياسية أظهرت أن مثل هذا التدوير الظاهري للسلطة، رغم مظهره الديمقراطي وإعطائه إحساسًا بالتغيير للناس، أدى فعليًا إلى تثبيت البنى السلطوية وخلق مؤسسات تخدم بقاء النظام في نهاية المطاف.

المؤشرات الإحصائية، مثل زيادة عدد الصحف أو مؤسسات المجتمع المدني الشكلية في تلك الفترة في هذه الدول، عُرضت في الدراسات السياسية كأمثلة على هذه "الإصلاحات" الحكومية.

تكرار التاريخ: من التراجيديا إلى الكوميديا

قال كارل ماركس ذات مرة: "يُعاد التاريخ مرة على هيئة مأساة، ومرة أخرى على هيئة مهزلة".

ربما تُجسّد هذه العبارة الانتقال من حكومة رئيسي إلى حكومة بزشكيان، بتكرار نسخة من حكومة خاتمي؛ إعادة إنتاج صورة النظام عبر وجه أكثر حداثة، لكنه يظل وفيًّا لنفس المبادئ الاستبدادية.

في عام ما بعد وفاة رئيسي وتسلّم بزشكيان السلطة، تم اتخاذ خطوات متعددة في الساحات السياسية والاجتماعية والثقافية تعكس رغبة النظام في ترسيخ شرعيته السياسية عبر حكومة ذات طابع إصلاحي.

في عهد خاتمي، ظهرت على الأقل مساحة مؤقتة ومحدودة من الحرية السياسية، أما حكومة بزشكيان فلا تحمل حتى إشارات للإصلاحات الدنيا، وتعمل كأداة لتعزيز آليات الأمن والدين في الدولة.

حكومة "الوفاق": عرض للوحدة لتثبيت السلطة

حكومة بزشكيان، بشعار "الوفاق الوطني"، سعت إلى حل الانقسام المُدار بين الأصوليين والإصلاحيين، والذي شكّل لسنوات آلية تدوير هندسي للسلطة.

هكذا، تستعد إيران للانتقال إلى عصر جديد تقل فيه الانقسامات الداخلية.

تشكيلة الحكومة غير المتجانسة، التي تضم وزراء من التيار الإصلاحي وأنصار رئيسي، وتحذيرات الرئيس المتكررة من "الخلافات السياسية"، وتكراره لعبارة "لا تتشاجروا"، كلها يجب تحليلها في هذا السياق.

هذا "الاتحاد الظاهري" بين القوى الموالية للنظام يُوظّف لتقليل التوترات داخل المنظومة وتعزيز احتكار السلطة.

من جهة أخرى، تكرار بزشكيان لتأكيد ولائه للمرشد، وتأكيده أنه لا يتخذ قرارًا من دون التنسيق مع علي خامنئي، وتعبيره عن "الامتنان" له، كلها تدل على الموقع الثانوي لمقام الرئاسة مقابل رأس هرم السلطة.

في هذا النظام الذي يهيمن عليه الأمنيون والعسكريون، لم يعد هناك مساحة كبيرة للمؤسسات المنتخبة كالرئاسة أو البرلمان. إنها حركة من نظام شبه ديمقراطي إلى استبدادي بالكامل عبر العقود الأربعة الماضية.

استمرار دعم "المقاومة"

في السياسة الخارجية، خلال هذا العام منذ وفاة رئيسي ورئاسة بزشكيان، استمر مسار "التنازلات مقابل البقاء" بقيادة شخصية أكثر اعتدالاً.

في هذه المرحلة، عاد وجه مألوف هو عباس عراقجي من خط جواد ظريف، لكن بأجندة واحدة: مفاوضات محدودة مع الغرب لتقليل الضغوط وتحرير الموارد المالية، وتضميد الجراح الحقوقية التي تسبب بها النظام، من دون تغيير في البنى الأيديولوجية والإقليمية.

في المقابل، لا يزال الدعم غير المشروط للفصائل التابعة لإيران قائمًا؛ فبزشكيان نفسه كان من الموقّعين على مشروع عاجل لدعم "قوى المقاومة" في البرلمان، وكرّر مرارًا تمسكه بهذا النهج. ولا يزال من موقعه كرئيس يردد رسميًا بأن الدعم للمقاومة سيستمر.

ولا ينبغي نسيان أنه رغم اللغة "السلمية" الشكلية وادعاء الرغبة في "دبلوماسية تخفيف التوتر"، فإن الأنشطة الخارجية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية للنظام الإيراني لم تتغير في عهد بزشكيان؛ من محاولات اغتيال المعارضين في أوروبا إلى التآمر على وسائل الإعلام الفارسية.

تعزيز السيطرة الأيديولوجية

في المجال الاجتماعي والثقافي، ركّزت حكومة بزشكيان على وزارتَي التعليم والثقافة، وأوكلتهما إلى شخصيات أمنية ودينية، في استمرار لسياسات الأسلمة والسيطرة الثقافية.

المصادقة على مشاريع مثل وجود الشرطة في المدارس لمراقبة الحجاب، وزيادة ميزانيات البرامج القرآنية، واستمرار تعيين طلاب الحوزات كمعلمين وموظفين في المدارس، كلها جزء من استراتيجية وزارة التعليم لترسيخ قيم النظام في أجيال المستقبل.

بزشكيان يُواصل بلا قيد ولا شرط برامج حكومة رئيسي؛ مثل تنفيذ وثيقة "المدارس النموذجية" التي تعود للحكومة السابقة.

كما أن وزير التعليم علي رضا كاظمي يصف نفسه بـ"جندي" القائد الأمني أحمد رضا رادان، ويؤكد تنفيذ "نظام التعليم والتربية وفق رؤى المرشد".

في نفس الوقت، يؤكد وزير الثقافة عباس صالحي، صاحب الخلفية الحوزية، أن "الفن والإعلام يجب أن يتأثرا بالقرآن".

إلغاء الحفلات، وإلغاء فعاليات ثقافية كـ"مهرجان الزقاق" في بوشهر، والدعم العلني لبزشكيان للحجاب الإجباري (حتى لو بأسلوب مختلف على حد وصفه)، كلها تؤكد استمرار نهج حكومة رئيسي وعدم حدوث أي تغيير.

بزشكيان لم يتردد في إعلان موقفه من على منصة الرئاسة بالقول صراحة: "لن أبقى صامتًا أمام كسر الأعراف والتعري، وسأتخذ إجراءات".

من رئيسي إلى بزشكيان: وجهان لعملة واحدة

رغم الاختلافات الشكلية، فإن الخطاب السياسي وشخصية وأسلوب قيادة بزشكيان لا تختلف جوهريًا عن رئيسي بالنسبة للسياسة الإيرانية.

فأحدهما خريج الحوزة، والآخر مروّج لتعاليمها؛ الخطب والآيات القرآنية جزء أساسي من خطاب كلاهما. إن كان رئيسي يستند في خطاباته إلى آيات القرآن، فإن بزشكيان يستند إلى "نهج البلاغة" في برامجه وكلماته.

كلاهما كذلك ارتكبا أخطاء لفظية وسلوكية أثارت جدلًا عامًا، وتناقلتها وسائل التواصل؛ من فيديو تقليد بزشكيان المثير للجدل لأصوات المعاقين، إلى خطئه اللفظي حين وصف القوات الجوية بـ"المشجعين"، ذكّر كثيرين بأخطاء رئيسي، ودفع الناس للتساؤل عن الفرق بين الرئيس "المثقف المتخصص" الذي رُوّج له انتخابيًا، وبين رئيسي "صاحب ست سنوات دراسية فقط".

مؤيدو هذين الرئيسين، من الأصوليين والإصلاحيين، قدّماهما على أنهما "قاضي القضاة" و"طبيب الأمة"، لكن أداء كليهما جعل من هذه الألقاب محل سخرية. بزشكيان الذي رُوّج له في الانتخابات كجراح قلب، لم يعرف حتى وزن القلب في المناظرات، واعترف لاحقًا بعد عام على توليه الحكم بأنه حتى في مجال الطب لم يكن ناجحًا، وأن مرضاه كانوا يموتون بعد العمليات واحدًا تلو الآخر.

ثوب جديد لنظام قديم

ما حدث خلال العام الماضي في السياسة الإيرانية هو نقل مدروس للسلطة من شخصية تنتمي للنواة الصلبة للسلطة إلى أخرى بوجه عصري، لكنها أكثر وفاءً للبنية ذاتها. تغيير شكلي هدفه ترميم شرعية منهارة لنظام الجمهورية الإسلامية.

وإذا كانت فترة خاتمي قد منحت مساحة، وإن كانت محدودة، للمشاركة السياسية، فإن النظام اليوم لم يعد يرى حتى تلك المساحة ضرورية، وبزشكيان جاء ليُضفي مضامين استبدادية وعسكرية على مفاهيم ديمقراطية.

الوعي الشعبي والتجربة التاريخية: تحدٍّ أمام هندسة السلطة

رغم محاولة النظام استنساخ ذات النموذج القديم من التسعينيات لإعادة ترميم ذاته بعد أزمة، إلا أن الفرق الآن يكمن في وعي المجتمع وذاكرته الجمعية.

انتفاضات يناير (كانون الثاني) 2017، ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وثورة "المرأة، الحياة، الحرية" في 2022، لم تُنهِ الثقة الشعبية فحسب، بل وضعت شرعية النظام في موضع تساؤل غير مسبوق.

بحسب استطلاعات الرأي، ومنها التي أجراها مركز "كمان"، فإن أكثر من 80 في المائة من الإيرانيين يؤيدون تجاوز نظام الجمهورية الإسلامية.

هذا المستوى من السخط الشعبي يُشير إلى أن اللعب بالوجوه لم يعد ينطلي على أحد.