حرب السفارات.. كيف وقفت فرنسا وإيران وجها لوجه؟
كشف الوزير الأسبق في الحرس الثوري والرئيس الأسبق لمؤسسة المستضعفين، محسن رفيق دوست، في حوارات نُشرت مؤخرًا، عن دور النظام الإيراني في اغتيال معارضيه خارج الحدود بشكل صريح.
وفي أحد حواراته الصحافية، قال رفيق دوست إنه كان قائد عمليات اغتيال شابور بختيار، وغلام علي أويسي، وشهريار شفيق، وفريدون فرخزاد، وأن هذه الاغتيالات نفذتها عناصر من جماعات الباسك الانفصالية. وقد وقعت اغتيالات بختيار وأويسي وشفيق جميعها في باريس. كما سبق أن قُتل عبدالرحمن برومند، أحد المقربين من بختيار ورئيس الهيئة التنفيذية لحركة المقاومة الوطنية الإيرانية، بمنزله الشخصي في باريس.
وأشار رفيق دوست في الحوار إلى لقائه مع سفير فرنسا في إيران، قائلاً إنه هدد باريس بالقرصنة الجوية والتفجيرات.
ما قاله رفيق دوست في هذه المقابلات يعود بنا إلى عقد الثمانينيات الميلادي، وهو عقد شهد توترًا حادًا بين إيران وفرنسا، وانتهى بقطع باريس العلاقات الدبلوماسية مع طهران بشكل أحادي في صيف 1987.
خلفية العلاقات الإيرانية الفرنسية
في سبعينيات القرن الماضي، كانت العلاقات بين إيران وفرنسا وثيقة. فباريس التي كانت تعيد بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، تسعى لتعزيز علاقاتها مع دول الخليج الغنية.
كما كان الشاه محمد رضا بهلوي يكنّ إعجابًا كبيرًا بفرنسا. بالإضافة إلى إعجابه الشخصي بالجنرال شارل ديغول، وكان الشاه يسعى لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة من خلال التقارب مع الدول الأوروبية.
ومع تولي فاليري جيسكار ديستان، الرئيس الفرنسي المعتدل، الرئاسة، تقاربت طهران وباريس أكثر. ووافق الشاه على استثمار مليار دولار في مشروع تخصيب اليورانيوم "يوروديف"، وحصل على حق شراء 10 في المائة من اليورانيوم المخصب.
لكن عمر حكم الشاه كان يقترب من نهايته. بعد مغادرة الخميني ورفاقه باريس متوجهين إلى طهران عام 1979، وتوجهت مجموعة أخرى من معارضي النظام الإيراني إلى باريس.
كان من بين هؤلاء شابور بختيار، آخر رئيس وزراء للشاه، وأبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية في تاريخ إيران، ومسعود رجوي، زعيم منظمة مجاهدي خلق. وكان النظام قلقاً للغاية من أن تصبح فرنسا ملاذًا لمعارضيه.
بداية التوترات
حدث أول صدام جدي بين إيران وفرنسا في يوليو (تموز) 1980، عندما ألقي القبض على أنيس نقاش، مقاتل لبناني، بعد محاولة فاشلة لاغتيال شابور بختيار. ورغم نجاة بختيار، قُتل شرطي ومواطن فرنسي. وحُكم على نقاش بالسجن مدى الحياة، ونفت إيران أي ضلوع في الحادث.
ازدادت التوترات مع بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980. فقد دعمت فرنسا العراق وقدمت له 137 طائرة "ميراج إف-1". في المقابل، واجهت إيران، التي كانت تحت حظر تسليحي، صعوبات كبيرة في إعادة بناء قواتها الجوية. وفي عام 1983، زودت فرنسا العراق بخمس طائرات "سوبر إيتاندارد" مع صواريخ "إكزوسيه"، ما زاد من قدرة العراق على مهاجمة ناقلات النفط الإيرانية. وأدى ذلك إلى مزيد من تدهور العلاقات بين إيران وفرنسا.
في الوقت نفسه، علقت فرنسا عقد "يوروديف" ورفضت تسليم حصة إيران من اليورانيوم المخصب. وردت طهران بحرب غير مباشرة، حيث نقلت ساحة الصراع إلى لبنان. فنفذ حزب الله اللبناني ومجموعات قريبة منه عمليات اختطاف لـ9 دبلوماسيين وصحافيين وباحثين فرنسيين، توفي أحدهم في الأسر.
حرب السفارات
بلغت التوترات ذروتها في خريف 1986، عندما وقعت سلسلة تفجيرات دامية في باريس أودت بحياة 13 شخصًا على الأقل وأصابت المئات. واستهدفت هذه الهجمات أماكن عامة مثل المتاجر الكبرى ومحطات القطارات وشوارع باريس المزدحمة، ما خلق حالة من الذعر في العاصمة الفرنسية.
وخلال تحقيقاتها، وصلت الشرطة الفرنسية إلى شخص يدعى وحيد جرجي، الذي كان يعمل كمترجم في السفارة الإيرانية. اتهمته الشرطة بالتواصل مع منفذي التفجيرات، وقالت إنه لعب دورًا رئيسيًا في تنسيق الهجمات.
جرجي، الذي لم يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، لجأ إلى السفارة الإيرانية. فحاصرت الشرطة الفرنسية مبنى السفارة وأغلقت الشوارع المحيطة بها. وبدأت حرب السفارات.
ردت إيران باعتقال بول توري، الدبلوماسي الفرنسي في طهران، بتهمة التجسس، كما حاصر الحرس الثوري السفارة الفرنسية في طهران.
وأدى هذا التصعيد إلى وصول العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى نقطة حرجة، وفي 17 يوليو 1987، قطعت فرنسا علاقاتها مع إيران بشكل أحادي.
بعد أشهر من التوتر، بدأت مفاوضات بين إيران وفرنسا بوساطة الجزائر وباكستان. كانت باريس في موقف ضعيف بعد أزمة التفجيرات، ودخلت المفاوضات دون أوراق قوية. وتمكنت طهران من تحقيق أهدافها عبر الضغط والاغتيالات.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، مع إطلاق سراح دبلوماسيين فرنسيين في لبنان، غادر وحيد جرجي السفارة الإيرانية وظهر في محكمة باريس. ولم توجه إليه أي تهم، وغادر مباشرة إلى المطار، ثم نُقل إلى كراتشي في باكستان، حيث تم تبادله مع بول توري.
وبعد عامين، أصدر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عفوًا عن أنيس نقاش، الذي عاد إلى إيران. وفي عام 1991، تمت تسوية الخلافات حول مشروع "يوروديف"، ووافقت فرنسا على سداد مليار دولار كديون لإيران.
اغتيال شابور بختيار واستمرار سياسة الاغتيالات
تعلمت إيران لعبة الاختطاف، وفي نفس العام اغتالت شابور بختيار. نفذ الاغتيال فريق من ثلاثة أشخاص في فيلا بختيار بضواحي باريس، بتوجيه من النظام الإيراني.
وقد قام الفريق، الذي خطط للعملية بدقة، بخداع قوات الأمن الفرنسية للدخول إلى منزل بختيار، حيث خنقوه بسلك الهاتف وطعنوه عدة مرات حتى الموت. وعُثر على جثتي بختيار ومساعده سروش كتيبه بعد يومين في حالة مروعة.
ورغم اعتقال أحد القتلة، علي وكيلي راد، في سويسرا واعترافه بأن الاغتيال تم بتوجيه من النظام الإيراني، فإن الحكومة الفرنسية، ربما لعدم رغبتها في استمرار التوتر مع نظام طهران، لم تُلحّ في ملاحقة قتلة بختيار.
جدير بالذكر أن تراجع باريس أمام طهران فتح الباب أمام أنشطة إيران خارج حدودها. ومنذ ذلك الحين، أدرك قادة النظام الإيراني أنهم يمكنهم تحقيق أهدافهم عبر الاختطاف والتفجيرات والضغط على الحكومات الغربية. وقد أثبتت التجربة أن هذه الاستراتيجية نجحت في معظم الحالات.