انفجار بندر عباس.. حادث قاتل أم فرصة سياسية؟
لا يمكن اعتبار انفجار بندر عباس مجرد حادث عابر، فهذا الحدث يعكس أزمة أعمق من الأبعاد الإنسانية والاقتصادية؛ أزمة تكشف عن مواطن الضعف البنيوي في النظام الإيراني من حيث الإدارة، والمساءلة، والشفافية، وضمان أمن المواطنين.
في 26 أبريل (نيسان)، دوى انفجار ضخم في ميناء رجائي في بندر عباس، أهم ميناء تجاري في إيران. ووفقًا للمصادر الرسمية، أسفر الحادث عن عشرات القتلى وأكثر من 1200 جريح، وتسبب في اضطراب حاد في تدفق ما يزيد عن 80 مليون طن من التجارة السنوية لإيران.
وتشير التحقيقات الأولية إلى أن الانفجار ربما بدأ من حاويات تحتوي على مواد كيميائية خطيرة، من بينها "بيركلورات الصوديوم"، وهي مادة تُستخدم أيضًا في الصناعات الصاروخية.
ليست أهمية الحادث محصورة في خسائره البشرية والاقتصادية فقط؛ فقد وقع هذا الانفجار في وقت حساس للغاية، إذ كانت حكومة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان منخرطة في مفاوضات نووية مع الولايات المتحدة في سلطنة عمان.
تزامن الكارثة مع المفاوضات النووية زاد من حساسيتها، وفتح المجال لتكهنات واسعة في وسائل الإعلام حول الأسباب المحتملة للانفجار.
وصلت حكومة بزشكيان إلى السلطة في انتخابات 2024، حاملة شعارات الشفافية، وتحسين المعيشة، واستعادة الثقة العامة. لكنها سرعان ما واجهت أزمة خطيرة في عامها الأول.
وعلى الرغم من التوقعات بأن الحكومة ستتبنى نهجًا مختلفًا في التعامل مع الأزمات، إلا أن السلوك الفعلي لم يختلف كثيرًا عن الحكومات السابقة.
فقد خضعت وسائل الإعلام المحلية للرقابة والتهديد، وأُخفيت معلومات حيوية عن طبيعة الانفجار والمواد المتفجرة، وسرعان ما تحولت أجواء إيران إلى وضع أمني مشدد.
رغم الوعود السابقة بالشفافية، جاء رد الحكومة متوافقًا أكثر مع نهج "إدارة الأزمات" من زاوية أمنية، وليس من منطلق المساءلة أمام الرأي العام.
هذا السلوك يوضح أن حتى في حال وجود نية للإصلاح داخل بعض أجنحة الحكومة، فإن البنية الأمنية والعسكرية العميقة للنظام لا تسمح بأي تغيير جوهري.
بعبارة أخرى، أثبت انفجار بندر عباس مرة أخرى أن منطق البقاء والسيطرة الأمنية له الأولوية على أي مبدأ للشفافية والمساءلة في هيكل الحكم الإيراني.
الانفجار: إهمال أم تخريب؟
منذ الساعات الأولى بعد الانفجار، طُرحت فرضية "التخريب الخارجي". وأشار بعض المحللين إلى سجل إسرائيل في تنفيذ عمليات سرية ضد البنى التحتية الإيرانية، في إطار الصراع الإقليمي. ومع ذلك، فإن الأدلة المتوفرة تشير بقوة أكبر إلى الإهمال الداخلي.
فحوادث مشابهة، مثل انفجار منجم الفحم في طبس في سبتمبر (أيلول) الماضي، والذي أسفر عن خسائر بشرية ومادية، تعكس ضعفًا هيكليًا مستمرًا في إدارة السلامة الصناعية في إيران.
هذه الحوادث، إلى جانب انفجار بندر رجائي، زادت من القلق حول معايير السلامة والرقابة على المنشآت الحيوية.
الأهم من ذلك أن حكومة بزشكيان لم توجه أي اتهام رسمي إلى أطراف خارجية، وهو أمر غير معتاد إذا ما قورن بردود النظام الإيراني السابقة على عمليات تخريب حقيقية.
هنا تبرز نظرية اللعبة (Game Theory) كأداة تحليلية مفيدة. فوفقًا لها، فإن اللاعبين العقلانيين يقيّمون التكاليف والفوائد قبل اتخاذ القرارات.
ولو كانت إيران بالفعل ضحية لعمل تخريبي، لكان من المنطقي استغلال الحادث كورقة ضغط في مفاوضات عمان مع الولايات المتحدة، أو حتى توجيه اتهام رسمي لإسرائيل لكسب تعاطف داخلي ودولي.
امتناع الحكومة عن توظيف الحادث سياسيًا يدل بوضوح على أنها لا تريد التصعيد، وهو ما يتماشى مع فرضية الإهمال الداخلي.
بعبارة أخرى، سلوك الحكومة ينسجم مع توقعات نظرية اللعبة عندما يكون الطرف المتضرر هو نفسه المخطئ.
من المستفيد من هذه الأزمة؟
من بين جميع اللاعبين، فإن إسرائيل هي الأوفر حظًا من حيث الاستفادة الاستراتيجية من الانفجار. إذ يمنحها هذا الحادث فرصة نادرة لتعزيز خطابها بشأن عدم كفاءة النظام الإيراني في إدارة التكنولوجيا الحساسة.
كما يمكن لإسرائيل أن تستخدم الانفجار كدليل إضافي ضد تقديم أي امتيازات نووية أو صاروخية لإيران، والدعوة لفرض رقابة صارمة.
ومن الناحية العملياتية، قد يعرقل الضرر الذي لحق بميناء رجائي سلاسل الإمداد الخاصة بتهريب الأسلحة من إيران إلى وكلائها مثل حزب الله والحوثيين، وهو مكسب أمني مهم لإسرائيل في المنطقة.
أما الولايات المتحدة، فستستفيد بشكل غير مباشر من الحادث، حيث إنه يكشف نقاط الضعف الداخلية لإيران، مما يمنح واشنطن مبررًا للمطالبة بتعهدات أوضح وضمانات أقوى خلال المفاوضات.
وبينما تتحمل حكومة بزشكيان تكاليف باهظة، فإنها، إن نجحت في إدارة الأزمة بشكل مسؤول، قد تتمكن من استعادة بعض من الثقة الشعبية، خاصة بين الفئات الساخطة.
في المقابل، حاولت المعارضة الداخلية والخارجية تسليط الضوء على فشل النظام من خلال هذا الحادث، للتأكيد على الحاجة إلى تغييرات هيكلية.
لكن وكما في الأزمات السابقة، فإن شدة القمع الأمني قد تمنع تحول هذا الغضب إلى حركة اجتماعية كبرى.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للانفجار
من الناحية الاقتصادية، فإن الأضرار التي لحقت بميناء رجائي - المسؤول عن الجزء الأكبر من التجارة الخارجية - ستخلف عواقب جسيمة.
قد يؤدي ذلك إلى تعطيل واردات السلع الأساسية، وارتفاع تكاليف الشحن، وزيادة التضخم الناتج عن نقص البضائع، مما يفرض ضغوطًا إضافية على الشرائح الضعيفة من المجتمع.
هذه الضغوط الاقتصادية تساهم في تآكل الشرعية السياسية للنظام. فوفقًا لنظرية "استقرار الأنظمة"، فإن أي دولة تفشل في توفير الأمن الاقتصادي والإنساني لمواطنيها، ستواجه على المدى البعيد أزمة شرعية متفاقمة.
انفجار بندر عباس لم يتسبب فقط في أضرار مباشرة، بل سيظل محفورًا في الذاكرة الجمعية كدليل إضافي على فشل الحكومة في تلبية الحد الأدنى من توقعات الناس.
على المستوى الاجتماعي، أحيا الانفجار الغضب الكامن في مجتمع مثقل بذكريات القمع الدموي، والفساد الواسع، ولا مبالاة المسؤولين تجاه حياة الناس.
ورغم عدم اندلاع موجة احتجاجات فورية، إلا أن الغضب والإحباط يتراكم تحت السطح، وقد ينفجر في لحظة مناسبة على شكل احتجاجات اجتماعية شاملة.
المفاوضات النووية: تقدم أم جمود؟
المفاوضات النووية الجارية في سلطنة عمان، والتي أعيد تفعيلها بعد انتخاب حكومة ترامب، تواجه الآن واقعًا جديدًا بعد حادثة بندر عباس.
من جهة، أصبح لدى الولايات المتحدة وحلفائها مبررات إضافية للمطالبة برقابة صارمة وشروط أوضح. ومن جهة أخرى، قد تكون إيران، تحت وطأة الضغوط الداخلية، أكثر استعدادًا لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق يخفف من التوترات الداخلية.
لكن على الجانبين أن يوازنا بين المكاسب والتكاليف السياسية الداخلية. فلا يمكن لإيران أن تظهر بمظهر المنهزم، ولا يمكن لأميركا الضغط الزائد إلى درجة إفشال المحادثات.
هذا الواقع يجعل مسار المفاوضات هشًا ومعقدًا أكثر من أي وقت مضى.
خاتمة
تواجه حكومة بزشكيان اليوم سؤالًا وجوديًا: هل تستطيع في خضم الضغوط الداخلية والتهديدات الخارجية أن تجد مسارًا لاستعادة حد أدنى من الثقة الشعبية؟ أم أنها، كمن سبقها، ستذوب داخل بنية النظام غير القابلة للإصلاح؟
في كلتا الحالتين، فإن انفجار بندر عباس يمثل علامة تحذير جديدة على أن إيران، ما لم تشهد تغييرات جذرية، ماضية نحو أزمات أكبر وأعمق.