وفقًا للتقارير العامة والرسمية المنشورة، كانت إيران في السنوات الأخيرة واحدة من مصادر التدخل في نظام تحديد المواقع العالمي في المنطقة، لكن هذه التدخلات بلغت ذروتها في الأيام والأسابيع الماضية.
تناول فريق التحقق في قناة "إيران إنترناشيونال" في هذا التقرير الأبعاد المختلفة للتدخلات في أنظمة الملاحة في إيران، محاولًا تقديم صورة شاملة عن تفاصيل ما يُشار إليه كجزء من الحرب الإلكترونية في المنطقة.
لماذا تتدخل الحكومات في إشارات نظام تحديد المواقع؟
إلى جانب إيران، تُعتبر روسيا والصين وكوريا الشمالية من الرواد في التدخل بنظام تحديد المواقع باستخدام تقنيات التشويش (Jamming) والتزييف (Spoofing)، وهي تقنيات تُعد جزءًا من تكتيكات الحرب غير المتكافئة.
خلال الاحتجاجات الشعبية في عامي 2019 و2022، قامت الأجهزة الأمنية للنظام الإيراني بشكل متزامن بقطع الإنترنت، والتدخل في نظام تحديد المواقع، وإضعاف إشارات الاتصالات.
في تلك الفترة، أبلغ المستخدمون عن اضطرابات في تطبيقات الملاحة مثل "Waze" و"Google Maps". عادةً ما تُنفذ هذه التدخلات المحلية لتقييد حركة المتظاهرين أو تقليل تنسيقهم.
في الحروب الحديثة، تقوم القوات العسكرية بإحداث اضطرابات محلية في البيانات الساتلية لمنع العدو من استخدام نظام تحديد المواقع لتوجيه الصواريخ أو الطائرات المسيرة أو القوات البرية.
تُظهر التقارير أن روسيا تسببت عام 2017 في تعطيل إشارات نظام تحديد المواقع عمدًا في البحر الأسود.
في السنوات الأخيرة، سُجلت اضطرابات واسعة النطاق على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، ويعتقد الخبراء أن مصدرها إسرائيل.
كما استخدمت الصين هذه التكتيكات في المناطق الحساسة أمنيًا، خاصة حول تايوان وجزرها الاستراتيجية.
في الماضي، كانت الولايات المتحدة تقلل عمدًا من دقة نظام تحديد المواقع المدني باستخدام خاصية "الوصول الانتقائي" لمنع الأعداء من الوصول إلى معلومات دقيقة عن المواقع، لكن هذه الخاصية أُلغيت من قِبل الحكومة الأميركية عام 2000.
ما هو التشويش وما الفرق بينه وبين التزييف؟
في أنظمة تحديد المواقع مثل GPS، تستخدم الهواتف والسفن والطائرات والأنظمة العسكرية إشارات تُرسل من الأقمار الصناعية إلى الأرض.
هذه الإشارات ضعيفة جدًا، وإذا قام أحدهم ببث موجات أقوى على نفس التردد بالقرب من جهاز الاستقبال (مثل هاتف محمول أو طائرة)، فلن يتمكن جهاز الاستقبال من تمييز الإشارة الأصلية. ويُطلق على هذا الإجراء اسم تشويش GPS (Jamming).
التزييف (Spoofing) هو نوع أكثر تقدمًا من التشويش، حيث يتم إرسال إشارات مزيفة ولكنها تشبه الإشارة الأصلية، مما يجعل جهاز الاستقبال يعتقد أنه في موقع آخر.
عادةً ما تقوم الحكومات بإنشاء حقول تشويش أو "فقاعات تزييف" محلية لحماية المراكز الحساسة أو الأحداث المهمة، لمنع تحليق الطائرات المسيرة أو الهجمات الموجهة.
التشويش العسكري للنظام الإيراني في مناطق النزاع
خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا، تلقت قناة "إيران إنترناشيونال" العديد من الرسائل من جميع أنحاء البلاد بشأن قطع الإنترنت واضطرابات في أنظمة تحديد المواقع.
قبل بدء الاشتباكات، أُفيد أن ما بين 970 إلى 1100 سفينة يوميًا في المياه الخليجة ومضيق هرمز وبحر عمان واجهت اضطرابات في نظام تحديد المواقع، وارتفع هذا العدد في 15 يونيو (حزيران)، اليوم الثالث من الحرب، إلى 1155 سفينة.
في حادثة واحدة، اصطدمت ناقلتا نفط، "فرونت إيغل" و"أدالين"، ليلاً، واقترح المحققون أن التشويش على نظام تحديد المواقع كان سبب خطأ الملاحة.
بعد ذلك، اضطرت شركات الشحن إلى تغيير مساراتها وجداولها وتجنب العبور ليلاً، مما تسبب في ازدحام في أحد المسارات الحيوية للتجارة العالمية.
قبل ذلك، حذرت الحكومة الأميركية في أغسطس (آب) 2019 إيران من إرسال تشويش على السفن التجارية التي تمر عبر مضيق هرمز.
التزييف وخلق مخاطر في المسارات الجوية
تُظهر تقارير من خريف 2023 أن طائرات ركاب كانت تعبر المجال الجوي الإيراني تعرضت لتزييف إشارات GPS.
وفقًا لمؤسسات مراقبة الطيران، خرجت ما لا يقل عن 20 طائرة ركاب وخاصة عن مسارها بسبب هذا التدخل الخطير.
في هذه العمليات، كانت الإشارات المزيفة تُبث من محطات أرضية وكانت قوية بما يكفي لتطغى على إشارات GPS الحقيقية.
صُممت هذه التزييفات بحيث لا يلاحظ الطيارون انحرافهم عن المسار لفترة من الوقت. في إحدى الحالات، سأل طاقم طائرة بوينغ 777، التي انحرفت بشكل كبير عن مسارها، برج المراقبة في بغداد: "أين نحن الآن وكم الساعة؟"
الاستيلاء على طائرة أميركية مسيرة باستخدام التزييف
في ديسمبر (كانون الأول) 2011، أعلنت إيران أنها نجحت في إسقاط طائرة استطلاع أميركية متطورة من طراز RQ-170 Sentinel من خلال التلاعب بإشارات GPS.
وقال مسؤولو طهران إنهم خدعوا الطائرة المسيرة باستخدام "التزييف" لإشارات GPS، مما جعلها تهبط في الأراضي الإيرانية.
وأرجع المسؤولون الأميركيون السبب إلى خلل فني، لكن السلامة التامة للطائرة المسيرة وهبوطها دون حوادث أضفت بعض المصداقية على ادعاء إيران.
بعد أسبوع، طلب باراك أوباما، الرئيس الأميركي آنذاك، من إيران إعادة الطائرة المسيرة، وهو ما لم يحدث أبدًا.
في السنوات اللاحقة، استلهمت إيران مما اكتسبته في هذا النزاع الإلكتروني وحاولت تصنيع نماذج مشابهة.
ما الذي نعرفه عن نظام تحديد المواقع العالمي GPS؟
نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مملوك لحكومة الولايات المتحدة الأميركية وتديره قوة الفضاء التابعة لوزارة الدفاع الأميركية.
يتم إدارة هذه المجموعة من الأقمار الصناعية من مركز التحكم التابع لقوة الفضاء الأميركية في قاعدة قوة الفضاء شریفر في ولاية كولورادو.
يعتمد نظام GPS على شبكة من الأقمار الصناعية في مدار أرضي متوسط (MEO) على ارتفاع يتراوح بين 20 و35 ألف كيلومتر.
صُمم هذا النظام ليعمل بأقل عدد من 24 قمرًا صناعيًا نشطًا في ستة مستويات مداريّة (كل مستوى يحتوي على أربعة أقمار) على ارتفاع يزيد عن 20 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، بحيث تكون أربعة أقمار على الأقل مرئية من أي نقطة على الأرض في أي وقت.
إشارات GPS متاحة عالميًا لجميع الدول والمستخدمين، لكن التحكم الكامل بالبنية التحتية والأقمار الصناعية وإعدادات الإشارة يبقى في يد الجيش الأميركي.
هذه القدرة جعلت دولًا مثل الصين وروسيا وحتى إيران تصف الاعتماد على GPS بأنه اعتماد غير آمن على أداة حيوية تسيطر عليها "دولة معادية".
الدول التي تمتلك أنظمة ملاحة عالمية مستقلة
قامت الاتحاد الأوروبي بتصميم نظام الملاحة "غاليليو" (Galileo) بإدارة مدنية، وهو يوفر خدمات عالمية بدقة عالية. بحلول أوائل العقد 2020، أصبح لدى هذا النظام 24 قمرًا صناعيًا فعالًا (إضافة إلى الأقمار الاحتياطية) في المدار، وهو في طريقه للوصول إلى القدرة التشغيلية الكاملة.
تمتلك روسيا نظام ملاحة يُدعى "غلوناس" (GLONASS) يضم أكثر من 24 قمرًا صناعيًا، ويوفر تغطية عالمية.
فعّلت الصين نظام الملاحة الساتلية "بيدو" (BeiDou) على المستوى العالمي منذ عام 2020، ويضم حاليًا 35 قمرًا صناعيًا. خدماته المدنية مجانية ومتاحة، لكنه يقدم أيضًا خدمات مشفرة للأغراض العسكرية.
إلى جانب هذه الأنظمة، طورت الهند نظام ملاحة إقليمي يُدعى "نافيك" (NavIC) يتضمن سبعة أقمار صناعية، ويغطي المناطق المحيطة بالهند في نطاق يقارب 1500 كيلومتر.
كما صممت اليابان نظامًا إقليميًا يضم أربعة أقمار صناعية يُدعى "نظام شبه السمت الرأسي" (QZSS) يعمل كنظام داعم.
هل هناك دلائل على سعي إيران لاستخدام أنظمة بديلة مثل بيدو؟
أعلن محمد كشاورز زاده، سفير إيران في بكين، في مارس (آذار) 2021، أن الصين ستتيح نظام تحديد المواقع العالمي الجديد الخاص بها، "بيدو"، لإيران.
وكتب مركز بلفير هارفارد في تقرير في نفس العام أن إيران وقّعت منذ عام 2015 مذكرة تفاهم مع الصين بشأن نظام "بيدو" تشمل محطات أرضية ومركز بيانات فضائية، لكن حتى وقت إعداد التقرير، لم تُنشر أدلة دقيقة على استخدام إيران لهذا النظام.
حتى إحسان جيت ساز، مساعد وزير الاتصالات، أعلن بعد 21 يومًا من انتهاء الحرب التي استمرت 12 يومًا، يوم الثلاثاء 15 يوليو (تموز)، عن وضع خطة لنقل خدمات تحديد المواقع من GPS إلى نظام "بيدو" الساتلي الصيني، مؤكدًا أن أحد المحاور الرئيسية للمفاوضات بين إيران والصين كان الاستفادة من قدرات هذه المجموعة الصينية لتحديد المواقع بدقة في إيران.
ووفقًا لجيت ساز، تعمل إيران على وضع خطة لنقل جزء من الخدمات القائمة على الموقع – في النقل والزراعة وإنترنت الأشياء – تدريجيًا من GPS إلى بيدو.
في غياب معلومات موثوقة، لا يمكن إجراء تكهنات دقيقة، لكن من المحتمل أن تكون طهران قد حدّثت بعض معداتها العسكرية، خاصة الصواريخ، لتعمل بشكل مستقل عن GPS وتعتمد على بيدو.
ما هي العوائق أمام استبدال GPS بأنظمة أخرى؟
عندما تتخلى أي دولة عن GPS، فإنها تنفصل عن النظام الإيكولوجي العالمي له. فالتطبيقات والمنصات والخدمات صُممت بناءً على GPS، وغيابه يعني عزلة تكنولوجية وانخفاض الكفاءة.
استخدام نظام دولة شريكة، مثل بيدو الصيني، يتطلب استثمارات في تجهيز نظام "الملاحة طويلة المدى المتقدم" (eLoran) والبنية التحتية الأرضية، وهي عملية مكلفة وتستغرق وقتًا طويلًا.
بالنسبة للمستخدمين المدنيين، مثل الهواتف الذكية وأنظمة ملاحة السيارات وأساطيل الطيران والبحرية، هناك حاجة إلى تغييرات واسعة النطاق في الأجهزة، مما يعني تقديم دعم مالي أو إجبار الشركات المصنعة على تغيير منتجاتها.
تداعيات قطع GPS فجأة وبشكل دائم
قطع GPS فجأة وبشكل دائم سيكون له تداعيات فورية وواسعة النطاق على عامة الناس، حيث تعتمد العديد من الخدمات اليومية مثل الملاحة وسيارات الأجرة عبر الإنترنت وطلب الطعام والتطبيقات القائمة على الموقع بشكل مباشر على هذا النظام.
قطع GPS دون وجود بديل مناسب سيؤدي إلى تعطيل الحياة اليومية للمستخدمين؛ فالملاحة والاتصالات الطارئة والخدمات عبر الإنترنت ستتعرض للاضطراب، مما يزيد من السخط العام، وستواجه الصناعات الحيوية مثل الطيران والنقل والكهرباء والاتصالات تأخيرات أو أخطاء أو توقفًا في الخدمة.