خلال السنوات القليلة الماضية، دخلت كلمة حديثة نسبيّاً لكنها مشحونة بالدلالات القوية إلى الأدبيات السياسية والإعلامية في إيران: "الإنترنت الطبقي". وهو مفهوم يبدو تقنياً في الظاهر، لكنه في جوهره يحمل أبعاداً اجتماعية واقتصادية بل وأمنية عميقة.
فهل يمكن للإنترنت أن يكون عالي السرعة، وغنيّ المحتوى، وحراً لمجموعة خاصة، بينما يعيش الآخرون حياتهم الرقمية بنسخة خاضعة للرقابة، بطيئة وناقصة؟ هذا هو السؤال الذي يشكّل جوهر النقاش حول "الإنترنت الطبقي" في إيران.
المفهوم ببساطة يعني تصنيف وتفكيك وصول المستخدمين إلى الإنترنت على أساس مهنتهم، أو مكانتهم الاجتماعية، أو المؤسسة التي يعملون فيها. في هذا النموذج، لا يتم تحديد وصول المستخدمين إلى الإنترنت العالمي أو إلى بعض المواقع بناءً على الحاجة الفعلية أو الطلب الحر، بل على أساس "التحقق من الهوية المهنية" أو "تقدير الأهلية المؤسسية".
الذين يعملون في مؤسسات حكومية، أو سلطوية، أو جامعات معينة، قد يتمتعون بإنترنت أسرع أو غير خاضع للرقابة، بينما يواجه عامة الناس طبقة من الإنترنت المُفلتر والمحدود.
هذا المخطط، وإن لم يُطرَح رسميّاً في البداية، لكنه كان قيد التجربة فعليّاً منذ فترة طويلة.
النقطة الفاصلة التي لفتت انتباه الرأي العام كانت تنفيذ مشروع في "جامعة شريف الصناعية".
في هذا المشروع، تمكّن الأساتذة والباحثون والطلبة، عبر تقديم معلوماتهم الشخصية، من استخدام إنترنت أكثر حرية وأقل خضوعاً للرقابة.
وقد انتقلت هذه التجربة تدريجيّاً إلى مؤسسات خاصة أخرى مثل مراكز التكنولوجيا، ووسائل الإعلام التابعة للحكومة، وحتى بعض الشركات الناشئة المختارة.
كما أنه خلال فترة وزارة محمد جواد آذري جهرمي (في حكومة روحاني)، حصل بعض الصحفيين والمؤسسات بشكل مؤقت على إنترنت غير خاضع للرقابة. وقد اعتُبرت هذه الخطوة مثالاً على "الإنترنت الطبقي" غير الرسمي.
كذلك، في عام 2022، وبعد الاحتجاجات العامة الواسعة، تم فرض قيود واسعة على الإنترنت، وتم الإبلاغ عن وجود وصول تفريقي لبعض المجموعات.
من الناحية التاريخية، يجب تتبّع جذور هذه السياسة في إنشاء "الشبكة الوطنية للمعلومات" وتشديد الفلترة خلال السنوات الماضية. فمنذ أوائل عقد 2010، ومع انطلاق مشروع الإنترنت الداخلي الوطني، سعت بعض الجهات في النظام الإيراني لفصل الإنترنت الإيراني عن الفضاء العالمي، ووضعه تحت إدارة محلية.
ورغم أن هذا الهدف طُرح في البداية تحت شعار "زيادة السرعة والأمان"، لكن تبيّن لاحقاً أن الهدف يتجاوز تحسين البنية التحتية؛ بل هو إنشاء شبكة خاضعة للسيطرة، قابلة للمراقبة، وطبقية في استخدام الإنترنت داخل إيران.
وقد بدأ هذا التوجه أولاً بفلترة واسعة النطاق للمنصات والخدمات العالمية: من فيسبوك وتويتر ويوتيوب، إلى واتساب وتلغرام وغوغل بلاي، ثم تطور نحو تقييد منهجي للوصول.
وبالتوازي مع هذا المسار، قامت الحكومة بإصدار تراخيص مؤقتة ومحدودة لبعض الأفراد أو المؤسسات، فأنشأت فعليّاً نوعين من الإنترنت: واحد لعامة الناس، وآخر لـ"الأشخاص المختارين".
قد يُطلق على هذا الفرق في الأدبيات الرسمية اسم "الإنترنت الطارئ"، أو "الإنترنت المهني"، أو "الإنترنت الوطني-الدولي"، لكنه في وعي الناس ليس إلا "إنترنت طبقي".
من هم المسؤولون عن إرساء الإنترنت الطبقي؟
يلعب المجلس الأعلى للفضاء السيبراني، بصفته أعلى هيئة لصنع السياسات في مجال الإنترنت بإيران، يلعب دوراً أساسياً في تصميم وتنفيذ الإنترنت الطبقي.
وقد أنشئ هذا المجلس بأمر من المرشد الإيراني عام 2011، ومن خلال إقراره لمشاريع مثل "الشبكة الوطنية للمعلومات" و"الفلترة غير المتجانسة"، وضع الأسس اللازمة لفصل الوصول إلى الإنترنت بناءً على هوية ومكانة المستخدمين الاجتماعية.
وقد أدّت قرارات هذا المجلس، بما في ذلك مشروع "الانفتاح" في جامعة شريف الصناعية، إلى التحقق من هوية المستخدمين وتخصيص وصول مختلف لهم.
كما أن شركات مثل "أبرآروان" لعبت دوراً تنفيذياً في هذه السياسات، من خلال توفير البنية التحتية السحابية للشبكة الوطنية للمعلومات، وتطبيق القيود ومراقبة حركة الإنترنت.
ورغم أن "أبرآروان" تنفي التهم المتعلقة بتسهيل قطع الإنترنت، فإن الوثائق والتقارير، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني المسرّبة، تشير إلى تعاون هذه الشركة مع الأجهزة الرقابية لتنفيذ السياسات التقييدية.
هل الإنترنت الطبقي قانوني؟
تُظهر مراجعة وضع اعتماد هذا المشروع رسميًا أن البرلمان الإيراني أو المجلس الأعلى للفضاء السيبراني لم يصدرا بعد أي قانون مصادق عليه بشأن تطبيق الإنترنت الطبقي.
ما يجري في الواقع هو عملية تدريجية تقوم على التجربة والخطأ، وتُنفذ على المستوى التنفيذي في غياب شفافية قانونية.
تقوم هيئات مثل شركة البنى التحتية للاتصالات، ووزارة الاتصالات، وبعض المراكز البحثية التابعة للحرس الثوري أو هيئة الإذاعة والتلفزيون بتنفيذ هذه السياسة عبر مشاريع "تجريبية" أو "أمنية" في قنوات غير علنية لاتخاذ القرار.
من جهة أخرى، عبّرت وزارة الاتصالات، على الأقل ظاهريًا، عن معارضتها لهذا التوجه. على سبيل المثال، في تموز(يوليو) 2025، أعلن إحسان جيت ساز، مساعد وزير الاتصالات، عبر منصة "إكس"، أن وزارة الاتصالات تعارض الإنترنت الطبقي، وأن الإنترنت يجب أن يكون عادلاً ومتاحًا للجميع.
في الوقت ذاته، أعلن المتحدث باسم الحكومة أن "الإنترنت يجب أن يكون عادلاً وعامًّا"، وشدّد على أن "حكومة بزشكيان لا تؤمن بالتمييز في الوصول إلى الإنترنت".
لكنه أضاف لاحقًا أن "الصحفيين أو الأكاديميين الذين يحتاجون إلى وصول أكبر للقيام بمهامهم، يجب أن يُمنحوا هذا الوصول".
هذه الجملة، وإن بدت غير ضارّة، تشكّل في الواقع مؤشرًا واضحًا على نفس التفكيك في الوصول؛ أي الاعتراف فعليًا بوجود إنترنت متعدد الطبقات.
تشير بعض التقارير إلى أن هيئات مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون، وبعض وسائل الإعلام التابعة، والمراكز التقنية، تتمتع بوصول إلى الإنترنت غير المقيد. هذا يدل على أن الإنترنت الطبقي، حتى بدون قانون مصادق عليه، يُطبّق فعليًا.
وخلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد احتجاجات عام 2022، ومع تكرار قطع الإنترنت، ازدادت حساسية الرأي العام تجاه حق الوصول الحر إلى المعلومات. وقد اعترض العديد من المواطنين، خصوصًا الشباب، والناشطين المدنيين، والصحفيين المستقلين، وأصحاب الأعمال عبر الإنترنت، مرارًا على سياسات تقييد الإنترنت. إن حجب منصات مثل إنستغرام وواتساب دون تقديم بدائل حقيقية عطّل أعمال آلاف الأشخاص وأضعف ثقة الناس بسياسات التكنولوجيا التي تتبعها الدولة.
في الوقت نفسه، حذّرت منظمات حقوق الإنسان مثل "أكسس ناو"، و"أصل 19"، و"مراسلون بلا حدود" مرارًا في تقاريرها السنوية من سياسات التفكيك والمراقبة التي ينتهجها النظام الإيراني.
وترى هذه المنظمات أن تصنيف الوصول إلى الإنترنت لا ينتهك فقط حق حرية التعبير والوصول إلى المعلومات، بل يعزز أيضًا التفاوت البنيوي داخل المجتمع ويزيد الفجوة الرقمية بين المواطنين.
وبالمقارنة مع تجارب دول أخرى، يبدو أن إيران تسير في مسار مشابه للصين، ولكن بسرعة أبطأ وبأساليب أكثر ليونة. في الصين، يُفصل الإنترنت تمامًا عن الفضاء العالمي ويخضع لرقابة حكومية شاملة. لا يمكن للمستخدمين الوصول إلى المحتوى العالمي إلا باستخدام برامج VPN غير رسمية، مع ما تحمله من مخاطر قانونية وأمنية عالية. في المقابل، تلتزم دول مثل الهند بمبدأ "حيادية الشبكة" ولا يسمح القانون فيها لمزودي الخدمة بفرض قيود على الإنترنت استنادًا إلى المهنة أو العرق أو مكان السكن.
حتى الهند، رغم التزامها بمبدأ حيادية الشبكة، قامت في بعض الحالات – مثل احتجاجات كشمير – بقطع الإنترنت مؤقتًا، لكن هذه الإجراءات لم تكن دائمة أو طبقية.
في المقابل، تضمن دول أوروبية، خصوصًا في اسكندنافيا وفرنسا وألمانيا، ليس فقط الوصول العام إلى الإنترنت كـ"خدمة عامة أساسية"، بل تحوّل بعضها، مثل فنلندا، إلى تقنين حد أدنى لسرعة الإنترنت لكل مواطن.
وفي بريطانيا، يمنع قانون حماية البيانات ومبدأ حيادية الشبكة مزودي الخدمة من التحكم في المحتوى أو طريقة الوصول حسب أهوائهم. وتُظهر هذه الفروقات أن تصنيف الوصول إلى الإنترنت في الديمقراطيات الليبرالية لا يُعد فقط انتهاكًا للحقوق المدنية، بل يُعتبر غير قانوني.
رغم ذلك، يبدو أن التوجه التفكيكي مستمر في إيران. فالمؤشرات الحالية حول وصول مختلف للهيئات الحكومية، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، وبعض الصحفيين التابعين، ومراكز خاصة إلى الإنترنت الحر، تشير إلى أن الإنترنت الطبقي غير الرسمي يُطبّق فعليًا؛ من دون شفافية، ومن دون التزام قانوني، ومن دون محاسبة.
التمييز الرقمي
المشكلة الأساسية أن الإنترنت الطبقي لا يقتصر فقط على تفاوت في السرعة أو في إمكانية الوصول، بل يرتبط مباشرة بمفهوم "العدالة الرقمية".
ففي عالم أصبحت فيه قطاعات الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والثقافة، والسياسة كلها تعتمد على الفضاء الرقمي، فإن خلق تمييز في الوصول إلى هذا الفضاء يعني إعادة إنتاج التفاوت في جميع أوجه الحياة. فإذا كان طفل في منطقة محرومة لا يملك سوى الوصول إلى المحتوى المحلي، بينما يتمكن طفل آخر في عائلة مرتبطة بمؤسسات خاصة من الوصول إلى المصادر العلمية والتعليمية العالمية، فإن هذه الفجوة لا تكون فنية فقط، بل بنيوية وحضارية.
في الختام، يمكن تلخيص وضع الإنترنت الطبقي في يوليو (تموز) 2025 كما يلي: لا يوجد قانون مصادق عليه بشأنه، لكنه يُنفّذ فعليًا؛ الحكومة تعبّر لفظيًا عن معارضته، لكنها عمليًا تمنح التراخيص له؛ المجتمع المدني بات أكثر وعيًا به، لكنه لا يملك أدوات كافية للمواجهة؛ وبالمقارنة مع العالم، تقع إيران في مسار أنظمة تفضّل الرقابة، والتقييد، والتصنيف على الحرية، والشفافية، والمشاركة.
استمرار هذا المسار، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجه البلاد، قد تكون له تبعات تتجاوز المجال الرقمي بكثير. فالفجوة الرقمية هي مقدّمة للفجوة الاجتماعية، وعدم المساواة في التعليم، والانغلاق الثقافي، وفي نهاية المطاف، عدم الاستقرار السياسي. يبدو الآن أكثر من أي وقت مضى أن الحوار العام والمطالبة بـ"الحق العام في الوصول المتساوي إلى الإنترنت" ضرورة لا مفر منها.