سرقة الآثار التاريخية في إيران.. جريمة عمرها 45 عامًا لتدمير الهوية الثقافية

في الأيام الأخيرة، تناولت وسائل الإعلام في إيران خبر اختفاء عدد من السجاجيد في متحف "مقدم"، كحلقة جديدة من سلسلة الأخبار المتعلقة باختفاء أو سرقة ممتلكات من التراث الثقافي القيّم، ما يسلّط الضوء مجددًا على استمرار هذا النمط المقلق.
ورغم إعلان مدير المتحف أن هذه السجادات لا تحمل قيمة تُذكَر لهواة الاقتناء، وأنها خُزّنت في مكان ما، فإن العدد الكبير من الحوادث المماثلة خلال العام الماضي وحده أدى إلى تشكيك النشطاء الإعلاميين في مجال التراث الثقافي بمصداقية هذا التبرير.
بداية السرقات بعد الثورة
يمكن تتبع القائمة الطويلة من المفقودات في المتاحف والمواقع التاريخية إلى الأيام الأولى التي أعقبت الثورة الإسلامية في عام 1979، حين قام الثوار بنهب ما رأوه ذا قيمة من قصور "سعد آباد" و"نياوران"، وتركوا ما لم يعتبرونه مهمًا مرميًا على الأرصفة.
ومنذ تلك الأيام وحتى السنوات الأخيرة، كان زوار قصر "سعد آباد" يفاجؤون عاما بعد عام بغرف تزداد فراغًا، لم يتبقَّ فيها سوى الجدران وبعض الكراسي، كشهود صامتين على سرقات متواصلة.
وخلال هذه الفترة، سُرِقت عشرات السجادات الثمينة من قصر سعد آباد، واختفت بعض القطع من متحف فرشجیان، وفُقِدت 21 قطعة من متحف الزجاج والسيراميك، وسرق أحد موظفي متحف "تخت جمشيد" لوحًا ذهبيًا من الحقبة الأخمينية وقام بصهره.
كما قامت بلدية طهران، دون أي إعلان، بنقل 30 لوحة فنية من متحف الإمام علي إلى دبي وبيعها هناك.
هذه الحوادث زعزعت ثقة الإعلاميين والكثير من المواطنين بالمؤسسات الحكومية التي يُفترض أنها الحارس الأمين لتراث إيران الثقافي.
تآكل الثقة في الأمانة العامة
هذا الانعدام في الثقة لا يبدو مستغرَبًا، فمع تزايد أخبار الفساد واختلاس مليارات التومانات، يصعب أن يثق الناس بمديرين تم تعيينهم ضمن منظومة الحكم ذاتها، حتى وإن كانت مسؤولياتهم لا تشمل إدارة المؤسسات المالية، بل الحفاظ على المتاحف والمعالم التاريخية.
لكن الفارق الجوهري بين اختلاس المال العام وسرقة الآثار التاريخية هو أن المال قد يُعوَّض مستقبلًا عبر إصلاحات سياسية أو نهضة اقتصادية، أما آثار كلوح ذهبي لخشایارشا أو قطع متحف الزجاج فهي وثائق فريدة لا يمكن تعويضها، كما يوضح ناصر تكمیل همایون، عالم الاجتماع والمؤرخ الإيراني.
الآثار التاريخية في إيران لا تواجه فقط خطر السرقة، بل ربما يتهددها خطر أكبر هو الإهمال في الحفظ أو حتى التدمير المتعمد، والذي غالبًا ما يتم بإشراف أو توجيه من مسؤولين كبار وصغار في الحكومة.
فمعظم المتاحف الإيرانية، بما في ذلك المتحف الوطني في طهران، تفتقر إلى الإمكانيات الأساسية لحفظ وحماية المقتنيات، حيث تُخزَّن العديد من القطع في مخازن رطبة وتُغلف بمواد غير مطابقة للمعايير.
نُشرت مؤخرًا تقارير عن تعرض بعض مقتنيات المتحف الوطني لمياه الأمطار التي تسربت إلى مخازنه.
كما أن العديد من القطع في المتاحف لا يُعيَّن لها أمناء خاصون، ما يجعلها عرضة للسرقة. هذه المشكلات، التي لا يتطلب حلّها سوى تخصيص مساحات مناسبة وتوظيف خبراء مختصين، تُظهِر بوضوح أن الحكومة تفضل تخصيص ميزانيات ضخمة لعشرات المؤسسات الأيديولوجية بدلاً من حماية إرث يمثل الهوية الثقافية للأمة.
ومن المشكلات الهيكلية في مجال المتاحف أيضًا طريقة تعيين المديرين، إذ يأتي كل مدير جديد ومعه فريق كامل من معاونيه، الذين يسعون لفرض سياسات جديدة، مما يقطع استمرارية عمليات الأرشفة والتوثيق والتصنيف الضرورية في المتاحف.
ويعلم خبراء المتاحف جيدًا أن غياب التوثيق المنهجي يُغري بعض الأشخاص للتلاعب بالسجلات وسرقة القطع من الأرشيف دون إثارة الشبهات.
النظرة الأيديولوجية تضر بالتراث
أحد الأسباب الرئيسية لعدم اهتمام السلطات في إيران بالتراث الثقافي والتاريخي هو النظرة الأيديولوجية لهذا الموضوع.
فمثلاً، أحد أكبر المشاريع التي دمّرت التراث العمراني كان خطة توسيع حرمي مشهد وشيراز وربطهما بشبكة شوارع حديثة، ما أدى إلى تدمير أجزاء من النسيج التاريخي لمدينة شيراز، وهو نسيج كان من الممكن ترميمه وتحويله إلى متحف مفتوح يعكس عمق تاريخ المدينة.
لكن السلطات السياسية والأمنية والدينية واصلت المشروع، رغم اعتراض نشطاء حماية التراث، غير آبهة بالخسائر الثقافية.
إضافة إلى ذلك، يتعامل بعض المسؤولين مع آثار ما قبل الإسلام على أنها أقل أهمية، في حين يفضلون التركيز على آثار ما بعد الإسلام، باعتبارها تعزز هوية النظام.
هذه الرؤية تُرسل رسالة واضحة إلى المجتمع مفادها أن سرقة الآثار أو إتلافها لا تثير اهتمام الحكومة، ما شجّع حتى على سرقة تماثيل الأسود الحجرية في المقابر أو نقرات الأبواب في القرى.
هوية بديلة للحكومة
بالنسبة للحكومة الإيرانية، الهوية الثقافية ليست تلك الممتدة عبر آلاف السنين من الحضارة، بل تلك التي تُعبّر عنها خطب الجمعة وتصريحات المسؤولين الدينيين، أما التراث العريق لإيران، فيُنظر إليه ككنز مركون في الزوايا، يمكن بيعه في أول فرصة.