هل من الممكن التوصل إلى اتفاق جيد مع إيران؟

كتب ريتشارد نيفيو، الذي شغل سابقاً منصب نائب المبعوث الخاص لإيران في وزارة الخارجية الأميركية، مقالا في مجلة "فورين أفيرز"، تناول فيه ما تحتاجه الولايات المتحدة في مفاوضاتها النووية مع طهران، وعمّا إذا كان التوصل إلى اتفاق "جيد" مع طهران ممكنًا في الأساس.
في مستهلّ مقاله، كتب نيفيو: "من بين جميع قرارات السياسة الخارجية المثيرة للجدل التي اتخذها دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، فإن استئناف الحوار النووي مع إيران كان من بين أكثرها إدهاشًا. فترامب كان قد سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015، المعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA)، في عام 2018. ومع مرور أربع سنوات على محاولات إدارة بايدن غير المثمرة لإعادة إحياء هذا الاتفاق، بدا أن احتمال التوصل إلى اتفاق جديد أمر بعيد المنال. خلال هذه السنوات، نجحت طهران في إنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بمستويات تقترب من المستوى المستخدم في تصنيع الأسلحة، بكميات تكفي لإنتاج عدة رؤوس نووية".
ويضيف نيفيو: "ومع ذلك، ومن المدهش، فإن طهران وواشنطن أبدتا، منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، اهتمامًا متبادلًا بالوصول إلى اتفاق. وقد رُسمت، خلال عدة جولات من المحادثات، أطر عامة لاتفاق محتمل. لدى الطرفين أسباب واضحة للسعي نحو اتفاق؛ إدارة ترامب تسعى إلى إعادة الاستقرار الاستراتيجي إلى الشرق الأوسط، ويريد ترامب شخصيًا تعزيز صورته كـ"صفقة كبرى". أما إيران، التي لا تزال تحت ضغط العقوبات الأميركية، فهي تسعى إلى خفض التوترات وتحقيق انفراجة اقتصادية دائمة، خاصة بعد ضعف العديد من وكلائها الإقليميين".
ويتابع نيفيو قائلاً: "رغم إبداء ترامب رغبته في حل سريع للمسألة النووية وثقته في قرب التوصل إلى اتفاق، فإن المشكلات القديمة والعميقة لا تزال تعقّد المفاوضات. فما زالت مخاوف واشنطن بشأن برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني ودعم طهران للجماعات الوكيلة قائمة، بينما ترفض إيران التراجع عن برنامجها النووي، خاصة في ظل انعدام الثقة في التزام واشنطن باتفاقاتها بعد انسحاب ترامب من الاتفاق السابق. طهران لا ترغب في تقديم تنازلات تمثل تراجعًا عن خطوطها الحمراء، كما أن الولايات المتحدة تريد اتفاقًا ذا قيمة حقيقية".
ويؤكد هذا الدبلوماسي الأميركي السابق: "حتى وإن تم التوصل إلى اتفاق بشروط مرضية لواشنطن، فإن هناك مخاطر قائمة، وسيتطلب أي اتفاق تقديم تنازلات صعبة من الجانبين. لكن اتفاقًا يضمن رقابة واسعة على المنشآت النووية المعلنة وغير المعلنة، ويحدّ من التخصيب مقابل رفع جزئي للعقوبات، يمكنه أن يعيد مزايا الاتفاق النووي السابق. وإذا جرت المفاوضات بشأن مثل هذا الاتفاق بعناية، وأُتيح له الوقت لإظهار نتائجه، فقد لا يساهم فقط في تعويض بعض الأضرار الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، بل قد يمنع أيضًا حدوث أزمة وشيكة ويؤسس لاستقرار مستقبلي في المنطقة".
عواقب الانسحاب
نيفيو، الذي كان عضوًا في فريق التفاوض الأميركي خلال إدارة باراك أوباما، استعرض في مقاله تفاصيل الاتفاق النووي لعام 2015، المعروف بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA)، وتطرّق إلى تداعيات انسحاب الولايات المتحدة منه.
وكتب قائلاً: "الاتفاق الذي أبرمته إدارة أوباما في صيف 2015 فرض قيودًا مهمة على البرنامج النووي الإيراني. فقد سمح لإيران بتخصيب اليورانيوم وممارسة أنشطة نووية أخرى، لكن تحت رقابة صارمة وضمن حدود دولية محددة. الهدف كان أن تظل إيران على بُعد عام كامل على الأقل من القدرة على إنتاج سلاح نووي، حتى أفق يمكن التنبؤ به. ومع أن بعض بنود الاتفاق كانت محددة زمنياً، فإن إيران كانت ستتجاوز معظم هذه القيود بحلول عام 2030، مع الحفاظ على هيكل شبيه ببرنامجها النووي عام 2015".
وأشار نيفيو إلى أن الاتفاق منذ البداية واجه معارضة شديدة، خصوصًا من المحافظين داخل الحزب الجمهوري، الذين رأوا أن استمرار البرنامج النووي الإيراني، حتى بمستويات منخفضة، يعني أن طهران ستواصل طريقها نحو السلاح النووي بصبر ومهارة.
ويتابع: "جادل المعارضون بأنه من الأفضل أن تواجه الولايات المتحدة هذه الأزمة مبكرًا، بينما الاقتصاد الإيراني لا يزال يرزح تحت العقوبات، بدلاً من الانتظار حتى تجني إيران مكاسب اقتصادية من رفعها. وقد تبنّى ترامب هذه الرؤية، وقرر في مايو (أيار) 2018 الانسحاب من الاتفاق، ما دفع إيران اعتبارًا من مايو 2019 إلى استئناف تطوير أبحاث أجهزة الطرد المركزي وتوسيع أنشطة التخصيب".
ويضيف: "طوال فترة حكمه، حاول بايدن إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، لكن المسؤولين الإيرانيين الذين خافوا من عودة ترامب، فقدوا الثقة في استدامة أي اتفاق جديد. وبعد توقف المحادثات، فضّلت إدارة بايدن عدم التصعيد، مما أدى إلى فشل مزدوج في إحياء الاتفاق أو صياغة بديل، بينما باتت إيران اليوم قريبة جدًا من إنتاج مواد كافية لسلاح نووي، إذا قررت ذلك".
العودة إلى الشفافية
يكتب نيفيو: "لحسن الحظ، لا تزال بعض عناصر اتفاق 2015 صالحة لتكون جزءًا من اتفاق جديد يحظى بدعم الحزبين في الولايات المتحدة. أهم هذه العناصر هي أدوات الشفافية. فرغم تركيز معظم النقاشات الدبلوماسية على مستقبل تخصيب اليورانيوم في إيران، إلا أن الرقابة الدولية باستخدام أحدث الوسائل هي الأساس لأي اتفاق ذي معنى".
ويؤكد: "ينبغي أن تسمح إيران للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتحقق مما إذا كان برنامجها النووي سلميًا أو يتجه نحو الاستخدام العسكري. ودون عمليات تفتيش متقدمة وشفافية كاملة، لن يصمد أي اتفاق، حتى لو شمل تفكيكًا كاملاً لبرنامج إيران النووي".
ويشدد: "على الولايات المتحدة أن تضغط لقبول إيران أكثر نظام رقابة صرامة ممكنًا، في المواقع المعلنة وغير المعلنة. وإذا رفضت طهران تطبيق كامل لاتفاقية الضمانات التابعة للوكالة، والبروتوكول الإضافي الذي صيغ عام 1994 بعد اكتشاف البرنامج النووي السري للعراق، فعلى واشنطن الانسحاب من المفاوضات".
ويضيف: "كما يجب أن تصر الولايات المتحدة على إعادة آليات الشفافية الخاصة بأجهزة الطرد المركزي والمخزونات، والتي توفر بيانات دقيقة عن مواقع وعدد ومكونات أجهزة الطرد المركزي، وكميات اليورانيوم المخصب".
وحذّر قائلاً: "في غياب هذه الشفافية، يمكن لإيران أن تواصل التقدم نحو تصنيع قنبلة نووية في السر، مع ادعائها أن برنامجها سلمي. منذ عام 2018، طورت إيران أجهزة طرد مركزي متقدمة قلصت وقت "الفرار النووي"، وأصبحت قادرة على إنشاء منشآت غنية تحت الأرض ومموهة، يصعب اكتشافها أو تدميرها".
كما أشار إلى أنه بعد هجمات 2021 على منشآت التخصيب الإيرانية، توقفت طهران عن تقديم معلومات للوكالة بشأن أماكن تخزين مكونات أجهزة الطرد المركزي، ما يجعل حتى الاتفاقات التي تُزيل المنشآت المعلنة، عديمة الجدوى دون تفتيش صارم لسلسلة الإنتاج.
معالجة أوجه القصور السابقة
يقول نيفيو: "يجب أن يعالج الاتفاق الجديد أوجه القصور التي كانت في مجال التفتيش ضمن الاتفاق السابق، لا سيما البند "T" في الاتفاق النووي، الذي تناول بشكل غير مكتمل موضوع التسليح. هذا البند نصّ على التزام إيران بعدم الانخراط في أنشطة مرتبطة بتصنيع السلاح النووي، لكنه لم يُلزمها بالإعلان عن المعدات أو السماح بتفتيشها".
ويتابع: "منذ عام 2018، وبُعيد كشف إسرائيل عن الأرشيف النووي الإيراني، اكتشفت الوكالة مواقع كان يُعتقد أن إيران أجرت فيها أنشطة تسليحية. وتشير تقارير أميركية حديثة إلى أن إيران لا تزال نشطة في مجالات ذات استخدام مزدوج. لذا، على الاتفاق الجديد أن يُلزم طهران بالكشف عن جميع المعدات والمواد التي تعتبرها "مجموعة مورّدي المواد النووية" ذات استخدام عسكري محتمل، وأن يسمح بتفتيشها، حتى في المواقع العسكرية".
التفاوض حول قدرة التخصيب
حول قضية تخصيب اليورانيوم، كتب نيفيو: "بالإضافة إلى الشفافية، فإن أحد أكبر التحديات لأي اتفاق جديد مع إيران هو تحديد السقف المسموح به للتخصيب داخل البلاد. ففي اتفاق 2015، قبلت واشنطن استمرار تخصيب محدود في إيران، لأن إلغاء كامل لقدرات التخصيب لم يكن ممكنًا سياسيًا أو فنيًا".
ويتابع: "الاتفاق خفّض قدرة التخصيب لفترة محددة، على أمل أن يمنح ذلك وقتًا للدبلوماسية وبناء الثقة وربما تغيير سلوك طهران. لكن تلك الآمال لم تتحقق، وتجربة انسحاب ترامب أضعفت الحجة التي تقول إن اتفاقًا مؤقتًا يمكن أن يؤدي إلى حل دائم".
ويؤكد: "لذا، يجب أن تضع الولايات المتحدة شروطًا صارمة بشأن حجم ونوع التخصيب المسموح به. أبسط خيار هو خفض مستوى التخصيب إلى أقل من 5%، وتحديد سقف لمخزونات اليورانيوم، وهو ما يزيد وقت "الفرار النووي". لكن بسبب تطور إيران في تصميم أجهزة الطرد المركزي، حتى التخصيب المنخفض قد يؤدي إلى إنتاج أسرع للمواد الانشطارية".
ويشدد على أن "الاتفاق يجب أن يتضمن حظرًا على إنتاج أو تركيب أجهزة طرد مركزي من الجيل الجديد، وإلزام إيران بتخزين جميع الأجهزة الزائدة بحضور الوكالة. كما ينبغي حظر بناء منشآت تخصيب جديدة، خاصة تلك المدفونة تحت الأرض والتي يصعب استهدافها. وإذا أرادت طهران الاحتفاظ بقدرة على إنتاج الوقود النووي لأغراض سلمية، فعليها القيام بذلك من خلال التعاون الدولي واستيراد الوقود، لا عبر توسيع قدراتها الذاتية".
ضمانات للالتزام المتبادل
يختم نيفيو بقوله: "أحد العوائق الجوهرية لأي اتفاق جديد هو انعدام الثقة لدى إيران في التزام أميركا. فالانسحاب الأحادي من الاتفاق عام 2018، مع أن إيران كانت ملتزمة به، أقنع كثيرين في طهران بأن واشنطن شريك غير موثوق".
ويتابع: "لكن في النظام السياسي الأميركي، لا يستطيع رئيس أن يُجبر من يخلفه على الالتزام باتفاق تنفيذي، ما لم يصدّق عليه مجلس الشيوخ – وهو أمر مستبعد في اتفاق مع إيران. لذا، يجب أن يكون الطرفان مبدعين في تقديم ضمانات. أحد الخيارات هو اعتماد جدول زمني لتنفيذ التعهدات على مراحل، بحيث يكون كل تنفيذ مرهونًا بالتزام الطرف الآخر. مثلًا، الإفراج عن الأموال المجمدة يمكن أن يكون تدريجيًا وبالتوازي مع تنفيذ الرقابة".
ويضيف: "من جهة أخرى، يجب أن تمتلك الولايات المتحدة أدوات لإعادة فرض العقوبات إذا خرقت إيران الاتفاق. آلية "الزناد" في الاتفاق النووي كانت تسمح بإعادة تفعيل العقوبات الدولية تلقائيًا في حال ارتكبت إيران مخالفة. استعادة هذه الآلية أو نسخة مماثلة أمر ضروري في أي اتفاق جديد".
هل الاتفاق الجيد ممكن فعلًا؟
وفي ختام مقاله، كتب نيفيو: "في النهاية، إن التوصل إلى اتفاق "جيد" بين الولايات المتحدة وإيران ممكن، لكنه يتطلب فهمًا دقيقًا للمصالح المتبادلة، والخطوط الحمراء، والاعتبارات السياسية الداخلية لدى الطرفين. لا يجب على أميركا أن ترضى باتفاق ضعيف فقط لتفادي التصعيد الفوري، كما لا ينبغي أن تطارد اتفاقًا مثاليًا لا وجود له إلا نظريًا".
وختم بالقول: "الاتفاق الواقعي يمكن أن يستند إلى خفض التخصيب الإيراني إلى مستويات منخفضة، وقبول رقابة صارمة وشفافية كاملة، مقابل رفع تدريجي للعقوبات. ربما لا يقضي هذا الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني تمامًا، لكنه سيُبقيه محدودًا، شفافًا، وتحت الرقابة؛ وهو بحد ذاته خطوة كبيرة نحو تفادي الأزمة التالية في الشرق الأوسط. فغالبًا ما تكون السياسة الجيدة هي اختيار الأفضل بين خيارات سيئة، واتفاق محسوب مع إيران، وإن كان غير مثالي، يظل خيارًا أفضل من الحرب أو الاستسلام الكامل".