"قومية العبيد".. وطنية حقيقية أم تواطؤ مع الجريمة؟

كشف الهجوم الأخير من قبل إسرائيل على المراكز العسكرية التابعة للنظام الإيراني، مرة أخرى، عن الهوة العميقة بين الوطنية الحقيقية والدفاع عن النظام باسم الوطن.
كشف الهجوم الأخير من قبل إسرائيل على المراكز العسكرية التابعة للنظام الإيراني، مرة أخرى، عن الهوة العميقة بين الوطنية الحقيقية والدفاع عن النظام باسم الوطن.
ففي الوقت الذي يكافح فيه الشعب الإيراني الفقر، والقمع، وتدمير البيئة والانهيار العام، انضمّ البعض إلى صفوف المدافعين عن نظام حاكم يدمّر هذا الوطن نفسه، بذريعة "الدفاع عن الأرض".
لكن الدفاع عن "النظام القائم" لا يعني بالضرورة الدفاع عن الوطن. ولو كان الأمر كذلك، لوجب علينا اعتبار من دعموا طالبان في أفغانستان، أو خليفة داعش في سوريا والعراق، أو هتلر في ألمانيا، أو نظام فيشي في فرنسا، وطنيين.
الوطنية الأصيلة تتجلى في اللحظات التاريخية، لا في دعم الأنظمة الفاسدة والقمعية، بل في الوقوف إلى جانب الشعب والحرية والكرامة الإنسانية.
النظام الذي دفع ملايين الإيرانيين إلى الهجرة القسرية، ودمّر طبيعة إيران، واستنزف مواردها المائية، وأحرق الثروات الوطنية في مغامرات أيديولوجية، وأسكت صوت كل معترض بالرصاص والسجن، لا يستحق أي دعم، حتى في مواجهة هجوم خارجي.
يحاول البعض تشبيه الوضع الحالي بهجوم صدام حسين على إيران في عام 1980، ليستنتجو أن الدفاع عن النظام الإيراني هو دفاع عن الوطن. لكن هذه مقارنة باطلة من الأساس.
صدام جاء بهدف احتلال خوزستان وإنكار الهوية الإيرانية، مستهدفًا وحدة الأراضي الوطنية. جاء ليستولي على الأرض. أما في الحادثة الأخيرة، فإسرائيل لم تأتِ لاحتلال الأرض، ولم تستهدف الشعب الإيراني، بل ردّت على تهديدات مباشرة من قبل النظام الإيراني، وهي تهديدات تُكرر منذ سنوات على لسان مسؤولي النظام ضد وجود إسرائيل.
النظام الإيراني، من خلال دعمه للجماعات الوكيلة في أنحاء المنطقة، وتطويره لبرامجه الصاروخية والنووية، ومغامراته الأمنية، لم يعزل إيران فقط، بل أوصلها إلى شفا الانهيار الاقتصادي والسياسي.
هدف هذه الهجمات لم يكن إيران ولا شعبها، بل ذلك الجهاز الذي يحتجز إيران رهينة ويستغل اسم "المقاومة" لضمان بقائه. ومع كل هذا، لا يزال البعض يزعم أن كون النظام الإيراني في حالة صراع مع قوة أجنبية، يعني وجوب دعمه، وأن معارضته خيانة للوطن.
لكن التاريخ أثبت أن هذا الرأي ليس فقط ساذجًا فقط لكن خطيرًا أيضا. في فرنسا المحتلة من قبل ألمانيا النازية، أولئك الذين تعاونوا مع نظام فيشي التابع لمحتل، لم يُعتبروا لاحقًا وطنيين بل خونة للأمة والكرامة الوطنية.
في المقابل، أصبح الجنرال ديغول، الذي غادر فرنسا وقاد المقاومة من المنفى، بطلاً قوميًا، لا خائنًا.
التاريخ قد حسم الأمر بوضوح: الوطنية الحقيقية لا تعني دعم "النظام القائم" بشكل أعمى، بل تعني الدفاع عن حرية وكرامة الأمة، حتى لو تطلب ذلك التعاون مع قوة أجنبية للخلاص من محتل داخلي.
فالاحتلال لا يتم دائمًا بالدبابات والحدود، بل قد يكون على يد أيديولوجيا معادية للوطن، تتخذ شكلاً دينيًا أو ثوريًا، وتبتلع بنية الدولة وموارد الأمة وإرادة الشعب كما لو كان احتلالاً عسكريًا.
ما فعله النظام الإيراني بإيران طوال أربعة عقود لا يقل عن الاحتلال الأجنبي: قمع، ونهب للموارد، وتبعية إقليمية، وفي النهاية، قطع الصلة بين الشعب والدولة.
هناك أمثلة مماثلة في دول أخرى. ففي إيطاليا، من دعموا الفاشية في عهد موسوليني تم حذفهم من الذاكرة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ألمانيا، واجه العديد ممن تعاونوا مع الحزب النازي النبذ الاجتماعي والسياسي. ولم يُذكر أيٌّ منهم في كتب التاريخ كوطني.
إذا كان النظام قد كبّل البلاد، وقلّص الاستقلال إلى مجرد شعار، وجرّد الناس من أبسط حقوقهم الإنسانية، فإن الوقوف إلى جانبه لا يعدّ دفاعًا عن الوطن، بل عن المحتل، سواء أكان هذا المحتل أجنبيًا أو يتحدث بلغة محلية ويرفع علماً محليًا.
الوطنية الحقيقية تعني الحفاظ على وحدة الأراضي، السيادة الوطنية، الكرامة والفخر للشعب الإيراني، وبناء مجتمع مزدهر يتيح لأبناء هذه الأرض أن يحققوا إمكانياتهم.
فالوطن لا يتمثل في الشعارات، بل في رفاه وحرية وكرامة الناس. ولا يمكن فصل الوطن عن أبنائه الشجعان؛ عن صوت بويا بختيارى، الذي صرخ قبل استشهاده الشجاع: "لدي أهل مثلكم.. أنا ابن هذا الوطن." عن الشباب الذين تُركوا في شوارع مظلمة، ولم يُسمح لهم بدخول المستشفيات، واستشهدوا مظلومين من أجل حرية الوطن.
كيف يمكن الادعاء بالوطنية والوقوف إلى جانب نظام أطلق الرصاص على قلوب هؤلاء الأبناء؟ كيف يمكن الادعاء بحب الوطن والتزام الصمت أمام دموع أمهات مجزرة نوفمبر؟ أولئك اللواتي سقط أولادهن في مستنقعات ماهشهر، أو كأم محسن شكاري، التي رفعت صوتها للسماء في قمة الضعف، لكن لم يردّ أحد.
الوطنية، كما ورد في قسم الولاء في العديد من الدول الحرة، تعني الوفاء للوطن في مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين. من يصمت أمام الجريمة والذل الداخلي، ويقف إلى جانب نظام دفع الأمة إلى الانهيار بالفساد والعنف، لا يمكنه الادعاء بالوفاء. لقد نقض القسم الأخلاقي والوطني الذي أدّاه.
النظام الذي دمّر الكرامة الوطنية عبر علاقاته التابعة مع الصين وروسيا، وحقّق أرقامًا قياسية في الفضيحة الاقتصادية بسبب ضعف عملته، وجعل أغلبية الشعب تحت خط الفقر، لا يمثل الوطن، ولا يستحق أي دعم.
من يقف اليوم إلى جانب النظام الإيراني، ليس مدافعًا عن الوطن، بل شريك في استمرار الجريمة والذل والخراب، حتى لو حاول تغليف هذه الشراكة بادعاء "مواجهة العدو الأجنبي".
هذا الشكل من القومية، كما وصفه أحد الأصدقاء، هو "قومية العبيد"، ويبعد كل البعد عن الوطنية الإيرانية المتجذرة في الحرية والكرامة والاعتزاز بالنفس.