غير أن رحلة براتمن الثالثة إلى لبنان في ديسمبر (كانون الأول) 2024، انتهت باحتجازه لستة أيام في ظروف غير إنسانية، تخللتها التحقيقات، والإذلال، والتعذيب النفسي، والانقطاع التام عن العالم الخارجي، كما كشفت صحيفة "جيروزاليم بوست" في تقرير جديد.
براتمن، الذي يحمل جنسيات الولايات المتحدة، وإسرائيل، وجنوب أفريقيا، ويعمل على الحصول على الجنسية الكندية، يصف نفسه بـ"الصحافي المواطن" الذي يسعى لتوثيق حقائق تتجاهلها وسائل الإعلام التقليدية.
سافر سابقًا إلى إيران، حيث التقى بالجالية اليهودية في طهران وأصفهان، كما دخل أفغانستان في ظل حكم طالبان، وأجرى حوارًا في سوريا مع أحد آخر ستة يهود ما زالوا هناك.
لكن ما حدث له في لبنان شكّل نقطة تحول في نشاطه الإعلامي، وهي تجربة لم تحظَ بعدُ بتغطية واسعة من أي مؤسسة دولية أو وسيلة إعلامية كبرى.
الاعتقال بعد سؤال عن الجيش الإسرائيلي
أثناء عودته من سوريا وعند دخوله مطار بيروت، لاحظ أحد ضباط الجوازات شيئًا على شاشة الحاسوب وسأله: "هل خدمتَ في الجيش الإسرائيلي؟".
أجاب براتمن بصدق: "نعم، أنا عشت في إسرائيل، وكغيري من المواطنين، أديت الخدمة العسكرية".
من تلك اللحظة، صادرت السلطات هاتفه المحمول، ومحفظته، وساعته، واقتيد إلى زنزانة دون ضوء طبيعي، أو مرحاض، أو أبسط مستلزمات الحياة. اضطر إلى التبول داخل زجاجات ماء فارغة.
مرشد الرحلة، الذي شعر بالخطر، غادر لبنان، لكن قبل مغادرته، أخطر القنصلية الأميركية بأن براتمن مواطن أميركي، على أمل حمايته من التعذيب.
خلال التحقيقات، اعتبر الضباط صورة لبراتمن أثناء أداء طقوس يهودية "دليلًا ضده". واستخدموا جهات الاتصال في هاتفه لتحديد أشخاص يهود، وطلبوا من أعضاء مجموعته السياحية كتابة أسماء أمهاتهم، في محاولة للتعرف على أصولهم اليهودية، وهي حيلة معروفة في العالم العربي.
طلب منه المحققون التوقيع على بيان باللغة العربية. رفض أولًا، لكنه اضطر إلى التوقيع بعد ترجمة سيئة عبر "غوغل"، تجنبًا لتفاقم وضعه.
في الليلة الأولى، دخل الحارس إلى الزنزانة قائلاً بابتسامة: "تم حل كل شيء، السفارة تواصلت، ستسافر قريبًا". وتكررت هذه الجملة لعدة أيام، ما وصفه براتمن بأنه جزء من "التعذيب النفسي الممنهج".
سماع تعذيب آخرين وصمت السفارة
في اليوم الثاني، نُقل إلى مقر جهاز الأمن العام اللبناني، حيث سمع أصوات تعذيب سجناء آخرين، معظمهم سوريون.
في إحدى الحالات، رأى فلسطينيًا-سوريًا وُضِع كيس على رأسه، وثُبّت مسدس برصاصة واحدة على صدغه، وسُحب الزناد... ولم يُطلق النار.
رغم أنه يحمل الجنسية الأميركية، لم يُسمح له بمقابلة محامٍ. وأفاد بأن السفارة الأميركية جلبت قائمة محامين، لكنها لم تُسلم له.
وحتى عندما مرض بسبب طفيليات في أمعائه، وُعِد بالعلاج، لكن لم يتلقَ شيئًا.
في اليوم الثالث، زاره ممثلون عن السفارة الأميركية. لكن قبل دخولهم، فكّ الحراس الأصفاد من معصميه حتى لا تظهر آثار الاعتقال، غير أن براتمن كشف الكدمات للوفد.
أخبرته السفارة أن البيت الأبيض لا يريد أن تعلم إسرائيل باعتقاله، ربما خوفًا من ردود فعل إقليمية. قال: "لم أكن أعرف حتى إن كانت عائلتي تعلم بمصيري".
الإفراج بضغوط دبلوماسية
في اليوم الخامس، أصدر القاضي أمرًا بإطلاق سراحه، لكن الأجهزة الأمنية تذرّعت بـ"إجراءات إدارية" لتأخير خروجه.
علم براتمن أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان في الرياض، وسيلتقي بالرئيس اللبناني. قال: "كنت أعلم أن لبنان لا يستطيع إبقاء أميركي محتجزًا في مثل هذه الظروف".
وفي تلك الليلة، دخل الحارس وقال: "تمت الموافقة، احجز تذكرتك". لكن أخبره أنه لن يستيقظ صباحًا، ما أخّر خروجه 24 ساعة إضافية.
أثر نفسي لا يُنسى
رغم خروجه سليمًا جسديًا، يقول براتمن إن الآثار النفسية لا تزال تلازمه. وبعد أسابيع من عودته، كان يُصاب بنوبات هلع كلما سمع صوت خطوات خلف الباب.
استشار محاميًا في حقوق الإنسان، ويفكر حاليًا في رفع دعوى ضد الحكومة اللبنانية في محكمة لاهاي.
تساءل: "لماذا، حين اعتُقلت دون محاكمة وفي ظروف غير إنسانية، لم يأتِ أحد إلى المطار؟ لماذا صمتت شخصيات مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز التي استقبلت محمود خليل؟ لماذا لم يتصل بي عضوي في مجلس الشيوخ؟ هل حياتي بلا قيمة؟".
إيران.. اليهود والخوف من التواصل
سبق لبراتمن زيارة إيران. وبإذن رسمي، زار الجاليات اليهودية في طهران وأصفهان.
وقال: "في المدارس اليهودية، يجب أن يكون المدير مسلمًا. تعليم الهولوكوست محظور. الجالية اليهودية خاضعة لرقابة شديدة، ولا يستطيعون التواصل مع الأجانب دون إذن".
في شارع فلسطين بطهران، تعرف إلى أكبر كنيس في البلاد. المطاعم الكوشير لا يُسمح لها بالإعلان، وتمت إزالة مزوزا (الرمز اليهودي) من الأبواب.
ويضيف أن كثيرين من يهود إيران يرغبون في الهجرة إلى إسرائيل، لكنهم يخشون الفقر والمخاطر، لذا يبقون.
كل يهودي هو إسرائيلي محتمل؟
ردًا على سؤال: هل العداء في المنطقة موجه ضد إسرائيل أم ضد اليهود؟
قال براتمن: "يقولون إن مشكلتهم مع إسرائيل، وليس مع اليهود. لكن في الواقع، يرون كل يهودي كإسرائيلي محتمل".
وختم قائلاً: "التغيير يبدأ من القاعدة، من الناس. مفتاح السلام هو بناء جسور إنسانية. إذا تواصل الإيرانيون واللبنانيون مع الإسرائيليين، سيدركون أن الطرف الآخر بشر مثلهم. وهذا ما يُخيف الأنظمة... لذلك يُجرَّم التواصل الإنساني".
واختتم بالقول: "يجب أن لا نخاف من بعضنا البعض. شعوب هذه الدول ضحايا، وربما أكثر منا".