لم يكن هذا الانفجار أول حادث دموي في السنوات الأخيرة، ولا أكثرها دموية، لكن في ذلك الفيديو شيء شدّنا، وأبقانا مشدوهين. إنه ليس فقط تصويرًا لحادثة، بل مشهد لانهيار ذهني جماعي لمجتمع يعيش منذ سنوات في حالة من التعليق الوجودي. هذا الانهيار ليس مجرد شعور، بل إن له جذورا في النظام الاجتماعي والثقة المدنية. بخلاف عشرات الفيديوهات العنيفة الأخرى، كسر هذا المقطع شيئًا في داخلنا. والسؤال الذي يحاول هذا المقال الإجابة عليه هو: لماذا صدمنا بهذا الشكل؟
المدينة.. الزحام.. العجز... والنهاية
من المهم أن لا ننسى أن المجتمعات لا تقوم على القانون وحده، بل على الثقة في استمرارية النظام، وعلى الإحساس بالانتماء للتاريخ والمكان، وهي الروابط الأساسية التي تبقي المجتمعات متماسكة. تجريش، بالنسبة لسكان طهران (وحتى لكثيرين ممن مرّوا بها)، ليست مجرد ساحة مدنية، بل رمز لهذه الاستمرارية والارتباط. تقع في أقصى شمال العاصمة، وشهدت على مرّ التاريخ أحداثًا عديدة، وكانت دائمًا خليطًا من الطبيعة والدين والثقافة والاقتصاد، من السيول إلى آلاف الذكريات الحلوة والمرة.
الانفجار في مثل هذا الموقع هو أكثر من مجرد فعل حربي؛ إنه رمز لانفصال الفرد عن المدينة، وانقطاع الذاكرة عن المكان، وانهيار العلاقة بين الشعب والوطن. وكأن كل تلك الروابط تطايرت مع تلك السيارة البيضاء التي انفجرت وسقطت كالموت على الأرض.
المدينة.. الصدمة.. الحرب والموت
المدينة ليست فقط فضاءً للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي، بل إطار للأخلاق العامة والتقاليد غير المكتوبة. وحين تتحول إلى مسرح لحرب لم يكن لها يد في بدايتها ولا نهايتها، وتُقصف بلا سابق إنذار، ينهار الإحساس الجماعي بالملكية والانتماء إلى البيئة. وهذا بالضبط ما تصوّره لنا كاميرا مراقبة ساحة تجريش: انكسار جدارٍ غير مرئي، لا على الحدود، بل في قلب المدينة.
في الفيديو الملتقط من كاميرا مراقبة، لا نجد صراخًا ولا مونتاجًا، فقط صورة خام للحظة التي انفجر فيها الشارع فجأة، وتطايرت الأجسام في الهواء. هذه العفوية القاتلة هي ما يجعل الصورة أكثر واقعية وأكثر إيلامًا. لقد رأينا الموت، لا في ساحة معركة، بل على الرصيف، في وسط الروتين اليومي، وهذا التضاد هو الذي هزّ أعماقنا.
المدينة.. الأمان.. والروابط التي انفجرت
بالنسبة لنا، الأمان هو ثمرة رابط ثقافي ونفسي بين الشعب، وهو رابط لا تصنعه السلطة بل بناه الناس عبر سنوات من المعاناة. بل أحيانًا، تكون السلطة نفسها قد سلبت منهم هذا الأمان.
ما يجعل صورة تجريش مرعبة هو غياب هذا الرابط. الصورة تضعنا أمام واقع لا توجد فيه مؤسسات مسؤولة، ولا روايات رسمية موثوقة، ولا مواطن يشعر بأنه جزء من نظام متماسك.
هذه اللحظات أخطر من الانفجار ذاته، لأنها تقوّض أساس ما يجعل من المجتمع مجتمعًا.
إنها ضربة للحياة اليومية، الحياة التي كانت تحاول أن تستمر رغم الحرب التي استمرت 12 يومًا، في مجتمعٍ لا يزال يؤمن بالنظام والقانون ونمط حياة جديد رغم كل شيء. لكن هذا الفيديو جاء ليقول لهم:" لا شيء طبيعي بعد الآن. الطبقة التي كان يفترض أن تكون عماد المجتمع، تدرك فجأة أنها حتى في قلب طهران، في وضح النهار، في ميدان يمثل المدنية، لا توجد حماية ولا دفاع.
المدينة.. الصورة الذهنية.. والألم المحفور
ربما لكل جيل صور محفورة في ذاكرته إلى الأبد: سنوات الحرب في الثمانينيات، جثتا داريوش وبروانه فروهر المغطتان ببطانية، رصاصة ندا آقا سلطان، صرخات القصب في معشور، دموع والدي مهسا أميني في المستشفى، و"باسم قوس قزح" من كيان بيرفلك، وغيرها مئات الصور...
واليوم، تذكّرنا صورة تجريش بأنه إن لم يستطع المجتمع الربط بين الصدمة والمعنى، وإن لم يتمكن من صناعة حياة من مشهد الموت، فسينزلق نحو اللامبالاة. هذه الصورة لا تحتاج فقط إلى تحليل أمني أو عسكري، بل إلى حوار عام، حِداد جماعي، وإعادة قراءة اجتماعية.. يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أثّرت فينا هذه الصورة؟ ماذا انكسر في داخلنا؟
إننا لم نصدم فقط من الانفجار، بل من معناه. المعنى الذي يقول إن المدينة لم تعد ملاذًا آمنا. وهذه هي الرسالة الأخطر في هذا الفيديو.
تجريش لم تعد فقط ساحة، بل رمزٌ لفتح حديثٍ جديد عن الروابط التي تجمعنا. عندما نتحدث عن الحرب، لِنُنزل الأعلام والهتافات لوهلة، ولنواجه الحقيقة: ربما لم تعد المدينة مدينتنا؛ المدينة التي فُصِلت فيها السلطة عن الناس منذ زمن، لكنها رغم ذلك، كانت وما زالت ملكًا لمواطنيها.